شارك معالي وزير الخارجية والمغتربين د.رياض المالكي، اليوم الثلاثاء، في اجتماعات الدورة الخامسة لمنتدى التعاون العربي الروسي المنعقدة في العاصمة الروسية موسكو، بحضور وزير خارجية جمهورية روسيا الاتحادية الصديقة سيرجي لافروف، والأمين العام لجامعة الدول العربية السيد احمد أبو الغيط، ورئيس الدورة الحالية لمجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري وزير الخارجية والتعاون الدولي لجمهورية الصومال الفدرالية السيد أحمد عيسى عوض.
وفي بداية كلمته، توجه المالكي بالشكر والتقدير إلى جمهورية روسيا الاتحادية الصديقة، رئيساً وحكومة وشعباً، على كرم الضيافة والاستقبال، وحسن ترتيب اجتماعات الدورة الخامسة لمنتدى التعاون العربي الروسي، متمنياً التوفيق والنجاح لأعمال هذه الدورة، وتحقيق أهدافها في تعزيز التعاون والتنسيق العربي الروسي لما فيه خير ومنفعة طرفي هذا المنتدى، والأمن والاستقرار والازدهار في منطقتنا والعالم.
واشاد المالكي بالمواقف الروسية التاريخية الداعمة والمؤيدة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة غير القابلة للتصرف، وما زالت مواقف الحكومة الروسية على ذلك العهد، متمسكة بقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، كطريق سليم ومرجعيات شرعية، لنيل الحقوق وحل الصراع العربي الإسرائيلي.
واضاف د.المالكي ” قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، اتخذ الشعب الفلسطيني وقيادته قراراً تاريخياً بدخول العملية السياسية التي تهدف إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي وتحقيق السلام الدائم والعادل والشامل في الشرق الأوسط، على أسس مستدامة، توفر للشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، على خطوط الرابع من حزيران عام 1967، وحق اللاجئين الفلسطينيين في التعويض والعودة إلى ديارهم، وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. في ذلك الوقت قدّمنا بالفعل ثمناً باهظاً ومؤلماً من أجل العيش بأمن وسلام واستقرار جنباً إلى جنباً مع الإسرائيليين. لكن السنوات الطويلة من عمر عملية السلام كشفت حقيقة النوايا الإسرائيلية من هذه العملية، فبينما كان هدفنا تحقيق السلام، كان هدف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، المماطلة والتسويف وكسب السنين من أجل تطبيق خطط وسياسات استعمارية ممنهجة لتكريس الاستيطان، وابتلاع أرضنا، ونهب ثرواتنا ومقدراتنا، وطمس هويتنا وثقافتنا، وتهويد مقدساتنا. واستمراراً للالتزام العربي بالسلام كخيار استراتيجي، تبنت قمة بيروت العربية عام 2002 مبادرة السلام العربية، التي نصّت إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل ومتفق عليه للاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الأمم المتحدة، وثم بعد ذلك يمكن إنشاء علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل. وإننا من هنا، نعيد التأكيد على قرارات القمم العربية، وآخرها قمة تونس، بأن التنفيذ العكسي لمبادرة السلام العربية من الياء إلى الألف، أمر مرفوض تماماً ولا يمكن أن يقدم معادلة صحيحة للسلام، بل هو وهم لن يقودنا إلا لسنوات أخرى من الصراع والتوتر.”
وفي السياق ذاته، اعرب المالكي على ان القيادة الفلسطينية تثمن عالياً مبادرة الرئيس بوتين بدعوته للقادة الفلسطينيين والإسرائيليين للاجتماع في موسكو دون شروط مسبقة، حرصاً منه على دعم الاستقرار والامن في منطقة الشرق الأوسط، ونرحب بدور روسيا الاتحادية في اية مبادرة او عملية سلام مستقبلية ضمن إطار دولي متعدد الأطراف.
واستعرض المالكي ممارسات اسرائيل القوة القائمة بالاحتلال في القدس قائلاً “أتينا إليكم من القدس، أرض الإسراء والمعراج، ومهد المسيح عليه السلام، مدينتنا وموروثنا الحضاري والديني، مدينة السلام التي لم تنعم بالسلام، المدينة التي تستمر وتتصاعد فيها يومياً السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تغيير هويتها وثقافتها وطابعها العربي، من خلال ممارسات الاستيطان والقتل والاعتقال والتزوير والتهويد، وفيها يعاني أهلها المقدسيين، ويلات تضييق العيش وسحب الهويات وهدم المنازل وخنق النمو الطبيعي ومحاولات التهجير، وفيها تُنتهك المقدسات ويعتدى عليها بشكل يومي، وتقوض حرية العبادة، وقد حذرنا ومازلنا نحذر من المحاولات الإسرائيلية الهادفة لتقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانياً ومكانياً، والآثار الكارثية لهذه السياسات والخطط الإسرائيلية على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم”.
كما اشار الى الاوضاع المعيشية الصعبة في قطاع غزة جراء استمرار الحصار والعدوان الإسرائيلي وقتل المدنيين، وتحويل أحلام الأطفال إلى كوابيس، وتدمير كل أشكال الحياة، بما فيها المنازل والمنشآت الاقتصادية والبنية التحتية. وذلك ما صنفته لجنة التحقيق الدولية المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان، بأنه يرتقي لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. بالاضافة الى تصاعد الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي في الضفة الغربية ويتغول على أرضنا وممتلكاتنا، حيث نشهد ويشهد العالم في كل حين الإعلان عن بناء آلاف الوحدات الاستيطانية الاستعمارية، ضمن خطط وسياسات الاحتلال الممنهجة التي تهدف للقضاء على إمكانية قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً، وبالتالي القضاء على فرص وآمال السلام، وحل الدولتين.
وتطرق المالكي خلال كلمته، الى معاناة الاسرى الابطال داخل سجون الاحتلال قائلاً “أتينا نحمل معاناة 6000 أسير ومعتقل فلسطيني في سجون الاحتلال، يخوض جزء كبير منهم في هذه الأثناء معركة الأمعاء الخاوية (الإضراب عن الطعام) دفاعاً عن حقوقهم المكفولة بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، والتي تنتهكها سلطات الاحتلال على نحو ممنهج، وتمارس عقوبات وإجراءات لا إنسانية ضد الأسرى، كان آخرها تركيب أجهزة تشويش لها آثار خطيرة على صحة وحياة الأسرى الفلسطينيين. وتشرّع سلطات الاحتلال العديد من القوانين العنصرية ضد الأسرى وقضيتهم، والتي كان آخرها القانون الباطل الذي مكّن الحكومة الإسرائيلية من سرقة مخصصات أسر الشهداء والأسرى والجرحى، وأدى إلى حصار مالي خانق أفقد الحكومة الفلسطينية نحو 60% من أموالها ومواردها، والتي تُسمى أموال المقاصة”.
واشار المالكي الى عذابات 6 مليون لاجئ فلسطيني في المخيمات والشتات، الذين ما زالوا ينتظرون لأكثر من 70 عاماً ممارسة حقهم في التعويض والعودة إلى ديارهم ومنازلهم التي هُجروا منها. مؤكداً انه لن يلغي حق العودة قرار من هنا أو هناك، بتجفيف موارد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين-الأونروا- أو ما يُسمى ببدعة إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني.
وطالب المالكي بضرورة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني بكافة قطاعاته، وحماية ممتلكاته وموارده الطبيعية وضمان حقوقه الأساسية وعلى رأسها حقه في الحياة، كما طالب بان يخرج المجتمع الدولي عن صمته بالعمل على توفير حماية دولية ضمن إطار القرارات الصادرة عن المنظومة الأممية مؤخراً.
وأكد المالكي ان الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية ما كانت لتحدث بهذا الشكل الواسع، وأن يُضرب بالقرارات والقوانين الدولية عرض الحائط، لولا أمرين: أولهما تهاون المجتمع الدولي في لجم جرائم وانتهاكات إسرائيل، قوة الاحتلال، وعدم تعامله بالجدية والآلية الكافية مع العربدة الإسرائيلية خارج نطاق القوانين والأعراف الدولية. والأمر الثاني هو الحصانة والحماية التي وفرتها الإدارة الأمريكية لجرائم وممارسات الحكومة الإسرائيلية، وجعلتها تُفلت من المحاسبة والعقاب حتى الآن.
واضاف المالكي، ان الإدارة الأمريكية مارست على الشعب الفلسطيني وقيادته، ضغوطاً تنوء بحملها الدول الكُبرى، حيث شهدنا ونشاهد مسلسل انتهاكات إدارة الرئيس ترامب لحقوقنا ومقدساتنا وهويتنا، لصالح إدامة ودعم الاحتلال الإسرائيلي، هذا المسلسل الذي بدأ باعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل، قوة الاحتلال، وحث الدول على اتباع هذه الخطوة التي تشكل تهديداً جدياً للأمن والاستقرار العالمي، مروراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني، وإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ووقف تمويل وكالة الأونروا، وقطع المساعدات والالتزامات الأمريكية تجاه السلام، وثم دمج القنصلية بالسفارة الأمريكية في القدس، والتشجيع على انفصال غزة عن الأرض الفلسطينية المحتلة.
في السياق ذاته قال المالكي ” رغم رفض المجتمع الدولي لتلك القرارات والإجراءات الأمريكية الأحادية غير القانونية، إلا أن الرئيس ترامب عاد مرة أخرى ليوجه ضربة قوية للقانون الدولي وانتهاك ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، من خلال اعتراف الإدارة الأمريكية الشهر الماضي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان العربي السوري المحتل، حيث شهدنا وشاهدنا مرة أخرى أن الإدارة الأمريكية التي لا تملك، أعطت الحكومة الإسرائيلية التي لا تستحق. والقادم أعظم في حال أقدم نتنياهو على تنفيذ تعهده بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية مقابل قانون الحصانة له، واستعداد الإدارة الامريكية الاعتراف الفوري بهذا الضم.
وأكد الوزير المالكي على ان ما تقوم به الإدارة الأمريكية الحالية من خروقات غير مسبوقة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وانسحابات متتالية من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ما هو إلا إمعان في تدمير النظام الدولي وأخلاقياته وقواعده. وهذه الخروقات الفاضحة إنما تُكرّس سوابق تشجع على هذا المسلك الخطير، ومن شأنها أن تعرض السلم والأمن الدوليين لخطر إستراتيجي حقيقي، مضيفاً، ان القوانين والأعراف الدولية التي تستهتر بها الإدارة الأمريكية وتضرب بها عرض الحائط، هي القواعد التي تحافظ على الحد الأدنى من السلم والأمن والاستقرار في عالمنا. وتساءل: هل يليق بعضو دائم في مجلس الأمن، المسؤول عن حفظ الأمن والسلم الدوليين، خرق قرارات هذا المجلس والإتيان بأفعال وتصرفات تهدد السلم والأمن في العالم؟! وهل يليق بعضو دائم في مجلس الأمن، تأجيج المشاعر والصراعات الدينية، والاستهتار بثقافات وحضارات الأمم، وتوزيع موروثها وممتلكاتها على قوة احتلال استعماري؟! لماذا يحدث هذا، وباسم من؟
وقال المالكي، ومع كل هذا ومازال فريق الرئيس ترامب، يزعم بأنه يعكف على طبخ ما يُسمى بصفقة القرن. عن أي سلام يتحدثون، وماذا سيبيعون وماذا سيشترون في هذه الصفقة، ونحن نشهد ونشاهد هذا الهدم الممنهج الذي تمارسه الإدارة الأمريكية لأسس وفرص السلام العادل، والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. وإننا بهذه المناسبة نحذر بأن الأيام والشهور القادمة، ستأتينا بأخبار سيئة عن استمرار مسلسل تنفيذ صفقة القرن المُدّعاة. بدأت بتسليم القدس لإسرائيل، ويبدو انها ستنتهي بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة كما طالبها بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
واعرب المالكي في كلمته ايضاً، على ان الأمة العربية بمكوناتها الثقافية والدينية، الإسلامية والمسيحية، تحترم الأمم والحضارات وتنوعها، وايماننا بحوار الحضارات وليس بصراعها، ونؤمن ايضاً بأن هذا العالم يتسع لنا جميعاً على اختلاف أعراقنا وعقائدنا، ولكننا لا ولن نقبل أن تُنتهك حقوقنا ومقدساتنا باسم أفكار أيديولوجية وعقائد متكبّرة ترى بأن فصيلاً من الناس يجب أن يسود على فصيل آخر. ويجب على العالم أن لا يظل صامتاً إزاء تغييب حق الشعب الفلسطيني، وانتهاك أرضه ومقدساته وثقافته. ويجب على المجتمع الدولي أن يحافظ على مستويات معقولة من الأخلاق والمبادئ والتمسك بالقانون وقرارات الشرعية الدولية.
وأكد المالكي بأننا ننظر إلى هذا المنتدى الذي يجمع الدول العربية بجمهورية روسيا الاتحادية، على أنه منصة مناسبة للتعاون مع القوى المؤثرة في هذا العالم، لإعادة التوازن الذي أخلت به الإدارة الأمريكية، وجبر القانون الدولي الذي كسرته القرارات الأمريكية الأخيرة، مرحباً بالدور الذي يلعبه شريكنا الموثوق، جمهورية روسيا الاتحادية، في إحياء فرص السلام، كما وننظر إلى روسيا الصديقة وشركاء آخرين كالاتحاد الأوروبي، للاطلاع بدور فاعل، من أجل تأسيس آلية دولية متعددة الأطراف، تحت مظلة الأمم المتحدة، لإطلاق عملية سلام حقيقة ذات مغزى، مستندة إلى المرجعيات الدولية المتفق عليها، ومحددة بإطار زمني وآلايات متابعة فعالة، تُفضي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتؤدي إلى السلام والاستقرار في المنطقة والعالم، تماماً كما جاء في مبادرة الرئيس محمود عباس للسلام والتي اعلن عنها في خطابه امام مجلس الأمن يوم 20 فبراير من العام الماضي.
واعاد الوزير المالكي التأكيد، بأن أي صفقة أو مبادرة سلام، ليست مبنية على المرجعيات الدولية المتفق عليها، ولا تتناول جميع قضايا الوضع الدائم على نحو عادل، مرفوضة ولن يكتب لها النجاح، وهذا ما أكدته قرارات القمم العربية وآخرها قمة تونس الشهر الماضي، وقمة القدس التي عقدت في المملكة العربية السعودية، العام الماضي.
وفي الختام ، اكد المالكي ان الشعب الفلسطيني المكافح العظيم، المؤمن بعدالة قضيته وبدعم أشقائه وأصدقائه، سيظل صامداً أبد الدهر في أرضه، أرض آبائه وأجداده، سيظل فيها كصخرة تتكسر عليها كل الأوهام والمخططات الشريرة. ونؤكد للعالم أجمع، للقاصي والداني، للعدو والصديق، بأن الشعب الفلسطيني مازال يملك القلم الذي يعطي شرعية السلام في أرضه، ومازال يملك ورقة التوت التي تستر عورة القوى الرجعية المنحازة. وستظل العدالة في هذا العالم معيبة وناقصة، حتى ينال الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وغير القابلة للتصرف. مضيفاً، امام كل هذه التحديات، سنشهد تحركاً فلسطينياً، سياسياً ودبلوماسياً خلال الأيام والأسابيع القادمة لشرح كل ذلك، ولوضع المجتمع الدولي امام مسؤولياته، قبل اقدام القيادة الفلسطينية على اتخاذ خطوات هامة لا رجعة عنها، ستغيّر من مسار الوضع السياسي الحالي، حمايةً للمشروع الوطني الفلسطيني ولحقوق شعبنا في تقرير مصيره، حريته ودولته المستقلة.
وحضر اجتماعات منتدى التعاون العربي السفير عبد الحفيظ نوفل سفير دولة فلسطين لدى روسيا، والسفير مهند العكلوك السفير المناوب لدولة فلسطين في جامعة الدول العربية والسفير خالد الميعاري وسكرتير ثالث شريهان ابو غوش من مكتب الوزير.
نص كلمة معالي الوزير د. رياض المالكي في الدورة الخامسة لمنتدى التعاون العربي الروسي - موسكو 16 أبريل 2019
معالي الصديق العزيز سيرجي لافروف وزير خارجية جمهورية روسيا الاتحادية الصديقة
معالي الأخ احمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية
معالي الأخ أحمد عيسى عوض، وزير الخارجية والتعاون الدولي لجمهورية الصومال الفدرالية الشقيقة
أصحاب المعالي والسعادة، رؤساء وأعضاء الوفود والضيوف الكرام..
في البداية أتوجه بالشكر والتقدير إلى جمهورية روسيا الاتحادية الصديقة، رئيساً وحكومة وشعباً، على كرم الضيافة والاستقبال، وحسن ترتيب اجتماعات الدورة الخامسة لمنتدى التعاون العربي الروسي، وأرجو التوفيق والنجاح لأعمال هذه الدورة، وتحقيق أهدافها في تعزيز التعاون والتنسيق العربي الروسي لما فيه خير ومنفعة طرفي هذا المنتدى، والأمن والاستقرار والازدهار في منطقتنا والعالم.
نجتمع هنا في موسكو، العاصمة العزيزة على قلوب الشعب الفلسطيني، التي أظهرت مواقف تاريخية داعمة ومؤيدة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة غير القابلة للتصرف، وما زالت مواقف الحكومة الروسية على ذلك العهد، متمسكة بقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، كطريق سليم ومرجعيات شرعية، لنيل الحقوق وحل الصراع العربي الإسرائيلي.
أصحاب المعالي والسعادة،
قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، اتخذ الشعب الفلسطيني وقيادته قراراً تاريخياً بدخول العملية السياسية التي تهدف إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي وتحقيق السلام الدائم والعادل والشامل في الشرق الأوسط، على أسس مستدامة، توفر للشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، على خطوط الرابع من حزيران عام 1967، وحق اللاجئين الفلسطينيين في التعويض والعودة إلى ديارهم، وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
في ذلك الوقت قدّمنا بالفعل ثمناً باهظاً ومؤلماً من أجل العيش بأمن وسلام واستقرار جنباً إلى جنباً مع الإسرائيليين. لكن السنوات الطويلة من عمر عملية السلام كشفت حقيقة النوايا الإسرائيلية من هذه العملية، فبينما كان هدفنا تحقيق السلام، كان هدف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، المماطلة والتسويف وكسب السنين من أجل تطبيق خطط وسياسات استعمارية ممنهجة لتكريس الاستيطان، وابتلاع أرضنا، ونهب ثرواتنا ومقدراتنا، وطمس هويتنا وثقافتنا، وتهويد مقدساتنا.
واستمراراً للالتزام العربي بالسلام كخيار إستراتيجي، تبنت قمة بيروت العربية عام 2002 مبادرة السلام العربية، التي نصّت إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل ومتفق عليه للاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الأمم المتحدة، وثم بعد ذلك يمكن إنشاء علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل. وإننا من هنا، نعيد التأكيد على قرارات القمم العربية، وآخرها قمة تونس، بأن التنفيذ العكسي لمبادرة السلام العربية من الياء إلى الألف، أمر مرفوض تماماً ولا يمكن أن يقدم معادلة صحيحة للسلام، بل هو وهم لن يقودنا إلا لسنوات أخرى من الصراع والتوتر.
وفي هذا السياق، نثمن عالياً مبادرة الرئيس بوتين بدعوته للقادة الفلسطينيين والإسرائيليين للاجتماع في موسكو دون شروط مسبقة، حرصاً منه على دعم الاستقرار والامن في منطقة الشرق الأوسط، ونرحب بدور روسيا الاتحادية في اية مبادرة او عملية سلام مستقبلية ضمن إطار دولي متعدد الأطراف.
أصحاب المعالي والسعادة،
أتينا إليكم من القدس، أرض الإسراء والمعراج، ومهد المسيح عليه السلام، مدينتنا وموروثنا الحضاري والديني، مدينة السلام التي لم تنعم بالسلام، المدينة التي تستمر وتتصاعد فيها يومياً السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تغيير هويتها وثقافتها وطابعها العربي، من خلال ممارسات الاستيطان والقتل والاعتقال والتزوير والتهويد، وفيها يعاني أهلها المقدسيين، ويلات تضييق العيش وسحب الهويات وهدم المنازل وخنق النمو الطبيعي ومحاولات التهجير، وفيها تُنتهك المقدسات ويعتدى عليها بشكل يومي، وتقوض حرية العبادة، وقد حذرنا ومازلنا نحذر من المحاولات الإسرائيلية الهادفة لتقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانياً ومكانياً، والآثار الكارثية لهذه السياسات والخطط الإسرائيلية على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
وفي غزة يستمر الحصار والعدوان الإسرائيلي وقتل المدنيين، وتحويل أحلام الأطفال إلى كوابيس، وتدمير كل أشكال الحياة، بما فيها المنازل والمنشآت الاقتصادية والبنية التحتية. وذلك ما صنفته لجنة التحقيق الدولية المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان، بأنه يرتقي لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي الضفة الغربية المحتلة، يتصاعد الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي، ويتغول على أرضنا وممتلكاتنا. ونشهد ويشهد العالم في كل حين الإعلان عن بناء آلاف الوحدات الاستيطانية الاستعمارية، ضمن خطط وسياسات الاحتلال الممنهجة التي تهدف للقضاء على إمكانية قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً، وبالتالي القضاء على فرص وآمال السلام، وحل الدولتين.
وأتينا نحمل معاناة 6000 أسير ومعتقل فلسطيني في سجون الاحتلال، يخوض جزء كبير منهم في هذه الأثناء معركة الأمعاء الخاوية (الإضراب عن الطعام) دفاعاً عن حقوقهم المكفولة بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، والتي تنتهكها سلطات الاحتلال على نحو ممنهج، وتمارس عقوبات وإجراءات لا إنسانية ضد الأسرى، كان آخرها تركيب أجهزة تشويش لها آثار خطيرة على صحة وحياة الأسرى الفلسطينيين. وتشرّع سلطات الاحتلال العديد من القوانين العنصرية ضد الأسرى وقضيتهم، والتي كان آخرها القانون الباطل الذي مكّن الحكومة الإسرائيلية من سرقة مخصصات أسر الشهداء والأسرى والجرحى، وأدى إلى حصار مالي خانق أفقد الحكومة الفلسطينية نحو 60% من أموالها ومواردها، والتي تُسمى أموال المقاصة.
في ظل ما تقدم، فإننا نطالب بالحماية الدولية للشعب الفلسطيني بكافة قطاعاته، وحماية ممتلكاته وموارده الطبيعية وضمان حقوقه الأساسية وعلى رأسها حقه في الحياة. آن الأوان ان يخرج المجتمع الدولي عن صمته بالعمل على توفير حماية دولية ضمن إطار القرارات الصادرة عن المنظومة الأممية مؤخراً.
وعند الحديث عن هذا كله، فلا يمكننا ان نغفل او نتجاوز عذابات 6 مليون لاجئ فلسطيني في المخيمات والشتات، مازالوا ينتظرون لأكثر من 70 عاماً ممارسة حقهم في التعويض والعودة إلى ديارهم ومنازلهم التي هُجروا منها. ولن يلغي حق العودة قرار من هنا أو هناك، بتجفيف موارد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين-الأونروا- أو ما يُسمى ببدعة إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني.
أصحاب المعالي والسعادة،
لم تكن كل تلك الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية لتحدث بهذا الشكل واسع النطاقة، وأن يُضرب بالقرارات والقوانين الدولية عرض الحائط، لولا أمرين: أولهما تهاون المجتمع الدولي في لجم جرائم وانتهاكات إسرائيل، قوة الاحتلال، وعدم تعامله بالجدية والآلية الكافية مع العربدة الإسرائيلية خارج نطاق القوانين والأعراف الدولية. والأمر الثاني هو الحصانة والحماية التي وفرتها الإدارة الأمريكية لجرائم وممارسات الحكومة الإسرائيلية، وجعلتها تُفلت من المحاسبة والعقاب حتى الآن.
لقد مارست الإدارة الأمريكية على الشعب الفلسطيني وقيادته، ضغوطاً تنوء بحملها الدول الكُبرى، حيث شهدنا ونشاهد مسلسل انتهاكات إدارة الرئيس ترامب لحقوقنا ومقدساتنا وهويتنا، لصالح إدامة ودعم الاحتلال الإسرائيلي، هذا المسلسل الذي بدأ باعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل، قوة الاحتلال، وحث الدول على اتباع هذه الخطوة التي تشكل تهديداً جدياً للأمن والاستقرار العالمي، مروراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني، وإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ووقف تمويل وكالة الأونروا، وقطع المساعدات والالتزامات الأمريكية تجاه السلام، وثم دمج القنصلية بالسفارة الأمريكية في القدس، والتشجيع على انفصال غزة عن الأرض الفلسطينية المحتلة.
ورغم رفض المجتمع الدولي لتلك القرارات والإجراءات الأمريكية الأحادية غير القانونية، إلا أن الرئيس ترامب عاد مرة أخرى ليوجه ضربة قوية للقانون الدولي وانتهاك ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، من خلال اعتراف الإدارة الأمريكية الشهر الماضي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان العربي السوري المحتل، حيث شهدنا وشاهدنا مرة أخرى أن الإدارة الأمريكية التي لا تملك، أعطت الحكومة الإسرائيلية التي لا تستحق. والقادم أعظم في حال أقدم نتنياهو على تنفيذ تعهده بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية مقابل قانون الحصانة له، واستعداد الإدارة الامريكية الاعتراف الفوري بهذا الضم.
أصحاب المعالي والسعادة،
إن ما تقوم به الإدارة الأمريكية الحالية، من خروقات غير مسبوقة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وانسحابات متتالية من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ما هو إلا إمعان في تدمير النظام الدولي وأخلاقياته وقواعده. وهذه الخروقات الفاضحة إنما تُكرّس سوابق تشجع على هذا المسلك الخطير، ومن شأنها أن تعرض السلم والأمن الدوليين لخطر إستراتيجي حقيقي، فهذه القوانين والأعراف الدولية التي تستهتر بها الإدارة الأمريكية وتضرب بها عرض الحائط، هي القواعد التي تحافظ على الحد الأدنى من السلم والأمن والاستقرار في عالمنا. فهل يليق بعضو دائم في مجلس الأمن، المسؤول عن حفظ الأمن والسلم الدوليين، خرق قرارات هذا المجلس والإتيان بأفعال وتصرفات تهدد السلم والأمن في العالم؟! وهل يليق بعضو دائم في مجلس الأمن، تأجيج المشاعر والصراعات الدينية، والاستهتار بثقافات وحضارات الأمم، وتوزيع موروثها وممتلكاتها على قوة احتلال استعماري؟! لماذا يحدث هذا، وباسم من؟
كل هذا، ومازال فريق الرئيس ترامب، يزعم بأنه يعكف على طبخ ما يُسمى بصفقة القرن. عن أي سلام يتحدثون، وماذا سيبيعون وماذا سيشترون في هذه الصفقة، ونحن نشهد ونشاهد هذا الهدم الممنهج الذي تمارسه الإدارة الأمريكية لأسس وفرص السلام العادل، والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. وإننا بهذه المناسبة نحذر بأن الأيام والشهور القادمة، ستأتينا بأخبار سيئة عن استمرار مسلسل تنفيذ صفقة القرن المُدّعاة. بدأت بتسليم القدس لإسرائيل، ويبدو انها ستنتهي بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة كما طالبها بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
أصحاب المعالي والسعادة،
إن الأمة العربية، بمكوناتها الثقافية والدينية، الإسلامية والمسيحية، تحترم الأمم والحضارات وتنوعها. ونحن نؤمن بحوار الحضارات وليس بصراعها، ونؤمن بأن هذا العالم يتسع لنا جميعاً على اختلاف أعراقنا وعقائدنا، ولكننا لا ولن نقبل أن تُنتهك حقوقنا ومقدساتنا باسم أفكار أيديولوجية وعقائد متكبّرة ترى بأن فصيلاً من الناس يجب أن يسود على فصيل آخر.
ويجب على العالم أن لا يظل صامتاً إزاء تغييب حق الشعب الفلسطيني، وانتهاك أرضه ومقدساته وثقافته. ويجب على المجتمع الدولي أن يحافظ على مستويات معقولة من الأخلاق والمبادئ والتمسك بالقانون وقرارات الشرعية الدولية.
وإننا ننظر إلى هذا المنتدى الذي يجمع الدول العربية بجمهورية روسيا الاتحادية، على أنه منصة مناسبة للتعاون مع القوى المؤثرة في هذا العالم، لإعادة التوازن الذي أخلت به الإدارة الأمريكية، وجبر القانون الدولي الذي كسرته القرارات الأمريكية الأخيرة.
كما نرحب وندعم الدور الذي يلعبه شريكنا الموثوق، جمهورية روسيا الاتحادية، في إحياء فرص السلام، وننظر إلى روسيا الصديقة وشركاء آخرين كالاتحاد الأوروبي، للاطلاع بدور فاعل، من أجل تأسيس آلية دولية متعددة الأطراف، تحت مظلة الأمم المتحدة، لإطلاق عملية سلام حقيقة ذات مغزى، مستندة إلى المرجعيات الدولية المتفق عليها، ومحددة بإطار زمني وآلايات متابعة فعالة، تُفضي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتؤدي إلى السلام والاستقرار في المنطقة والعالم، تماماً كما جاء في مبادرة الرئيس محمود عباس للسلام والتي اعلن عنها في خطابه امام مجلس الأمن يوم 20 فبراير من العام الماضي.
ومن هنا، نؤكد مرة أخرى، بأن أي صفقة أو مبادرة سلام، ليست مبنية على المرجعيات الدولية المتفق عليها، ولا تتناول جميع قضايا الوضع الدائم على نحو عادل، مرفوضة ولن يكتب لها النجاح، وهذا ما أكدته قرارات القمم العربية وآخرها قمة تونس الشهر الماضي، وقمة القدس التي عقدت في المملكة العربية السعودية، العام الماضي.
أصحاب المعالي والسعادة ،
إن الشعب الفلسطيني المكافح العظيم، المؤمن بعدالة قضيته وبدعم أشقائه وأصدقائه، سيظل صامداً أبد الدهر في أرضه، أرض آبائه وأجداده، سيظل فيها كصخرة تتكسر عليها كل الأوهام والمخططات الشريرة. ونؤكد للعالم أجمع، للقاصي والداني، للعدو والصديق، بأن الشعب الفلسطيني مازال يملك القلم الذي يعطي شرعية السلام في أرضه، ومازال يملك ورقة التوت التي تستر عورة القوى الرجعية المنحازة. وستظل العدالة في هذا العالم معيبة وناقصة، حتى ينال الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وغير القابلة للتصرف.
وامام كل هذه التحديات، سنشهد تحركاً فلسطينياً، سياسياً ودبلوماسياً خلال الأيام والأسابيع القادمة لشرح كل ذلك، ولوضع المجتمع الدولي امام مسؤولياته، قبل اقدام القيادة الفلسطينية على اتخاذ خطوات هامة لا رجعة عنها، ستغيّر من مسار الوضع السياسي الحالي، حمايةً للمشروع الوطني الفلسطيني ولحقوق شعبنا في تقرير مصيره، حريته ودولته المستقلة.
نأمل منكم الدعم والإسناد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.